لقد اعتقد المفسرون أنّ جنّة آدم في السماء و أنّ آدم هو أول مخلوق بشري خلقه فاطر السماوات و الأرض بيديه بعد حوار دار بينه و بين مجموعة من الملائكة و اعتقدوا أنّ الشجرة التي نُهي آدم عن قربها شجرة فاكهة و أنّ حواء زوجه خُلقت من ضلعه و أنجبا أولادا و تزاوج الإخوة مع الأخوات لضرورة بقاء النسل البشري.
هذه القراءة الكاريثية للبلاغ المبين يصدّقها الكثير من الناس اليوم معتقدين أنّ هذه التفسيرات هي عين كلام الله، و إذ نقدم في هذا البحث قراءة مختلفة تماما عن قراءة الأسلاف نحذر من اتخاذ أراء الناس تنزيلا و ندعو إلى التعامل معها بحذر و عقلانية.
و لنبدأ بحثنا مستعنين بعالم كل شيء.
الذي أثبثه العلم الحديث أنّ ظهور الإنسان العاقل المبدع المغير لمحيطه و الواعي بما حوله سبقه وجود بشر همج بملايين السنين و المقارنة التي تمت بين جينات الكائنين تعطينا الفارق الزمني بين الكائنين و تعطينا الفارق الجيني بينهما و بين الإنسان الحديث، فالإنسان العاقل ظهر منذ 35 إلى 50 ألف سنة، على حين ظهر الجنس البشري الهمجي منذ ملايين السنين و مرّ على مراحل قبل أن يستوي على قدميه. و أحرى بنا أمام بينات العلم أن نقف وقفة طويلة و نتساءل : هل خالق الكون ينزّل كتابا يقص عكس ما حدث أم أنّ البلاغ المبين "أحسن الحديث" وفي طياته الحق في ما أورده من آيات وفيما يتعلق بقصة خلق الكون و الإنسان من البداية إلى نهاية مدة التكليف. و أحرى بنا أن نتمعن و نقرأ القرآن ببصر ثاقب عند ظهور البينات العلمية إذ ما نزل به القرآن ليس إلاّ إسقاطا للكون الفسيح في صحيفة تُقرأ، فلا يختلف المسقَط عن المسقِط و إنّما تتعاظم معرفتنا بالتنزيل بتعاظم معرفتنا بالكون و المضحك أن يقف الناس مع قراءة الأسلاف لآيات الكتاب و قد ثبث خطؤها و تناقضها ويستسلمون لها رافضين تجاوزها:
"و إذا قيل لهم اتّبعوا مآ أنزل الله قالوا بل نتّبع مآ ألفينا عليه أباءنآ، أولو كان ءابآؤهم لا يعقلون شيئا و لا يهتدون" البقرة 2/170
و علينا أن نتساءل، هل القرآن يتحدث عن الجنس البشري الهمجي الذي سبق آدم الإنسان بعد نفخ الروح فيه. لنقرأ :
"هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا" الإنسان 76/1
و هذه الآية تثبث بصيغة التساؤل "هل" وجود دهر سبق وجود "الإنسان" الكائن الواعي و قد كان هذا الكائن غير مذكور أي ليس له صحيفة أعمال و لا حضارة و لا اتصال بوحي إلهي أو شيطاني و تجعلنا هذه الآيات ندرك أنّ التغير الذي أُحدثَ فينا بنفخ جعلنا كائنا "سميعا بصيرا" و من قبل كنّا كائنات همجية متوحشة ضارية :
"إنّا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا (2) إنّا هديناه السبيل إمّا شاكرا و إمّا كفورا(3)" الإنسان
و يشرح القرآن كيفية ظهور السلالة البشرية الهمجية الأولى :
"الذين يجتنبون كبائر الإثمـ و الفواحش إلاّ اللمم؛ إنّ ربّك واسع المغفرة؛ هو أعلمـ بكمـ إذ أنشأكمـ من الأرض و إذ أنتمـ أجنّة في بطون أمهاتكم، فلا تزكوا أنفسكم، هو أعلمـ بمن تقّى" النجمـ 53/32
و هنا يتكلم البلاغ المبين عن النشأتين:
من الأرض
و من الأجنة
و لقد خرجت السلالة البشرية الأولى من الأرض و هذا التعبير لا مجاز فيه و لا كناية بل هو الحق الساطع فخروجنا كما سيأتي تفصيله بدأ من الأرض كما يخرج النبات، و حتى يزول الشك في هذه الدلالة نقرأ :
"و الله أنبتكمـ من الأرض نباتا(17) ثم يعيدكمـ فيها و يخرجكم إخراجا(18)" نوح 71
والذي يقولون بالمجاز سوف يقلبون الحقيقة و يجعلون الآية تعبيرا مجازيا لا حق فيها و إنّما تعبر شيء آخر. والآية واضحة أنّ الإنبات الأول يقابله الإخراج الأخير و هو عينه الخروج من الأرض كخروج النبات. ونلاحظ الرسم القرآني في التداول بين الميم الناقصة في "أنبتكمـ "و "يعيدكمـ " التي تدل على أنّ الإنبات و الإعادة تتم باتصال و ليس مرّة واحدة عكس الإخراج الذي يتمّ دفعة واحدة بالميم الكاملة في "يخرجكم".
و يكرر القرآن في آيات عديدة أن بدأ خلق الإنسان من طين إلى تمام نفخ الروح و نقرأ :
"ذلك عالم الغيب و الشهادة العزيز الرحيمـ (6) الذي أحسن كل شيء خلقه، و بدأ خلق الإنسان من طين (7) ثمّـ جعل نسله من سلالة من مآء مهين(
ثمّـ سوّاه و نفخ فيه من روحه، و جعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة؛ قليلا ما تشكرون(9)" السجدة
فالبداية كانت من طين يصفه المولى في آيات أخرى ب "الحمأ المسنون" الذي أثبث العلم الحديث تكوّن الأحماض الأمينية فيه بفعل التغير الحراري فيه إلى تكون الخلية الأولى و انقسامها إلى زوجين ثم تلاقح هذه الخلايا وخروج البشر الأوائل من الأرض كما تخرج النباتات و هذا الذي تعبر عنه أداة "ثمـ" و مرور زمن طويل عن هذا الحدث وبعد الخروج أصبح التكاثر بين الزوجين عبر التناسل الجنسي المعهود اليوم و مرّ زمن طويل قبل أن يستوي البشر الأوائل على أقدامهم إلى نفخ الروح فيهم في طور آدم ليتفاعلوا مع محيطهم ب" السمع و الأبصار و الأفئدة".
و أختم هذه التوطئة بهذه الآيات الكريمة التي توضح مرور البشر بأطوار في خلقهم وبدايتهم بنشأة أولى خروجا من الأرض :
"أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق؛ ثمّـ الله ينشئُ النشأة الأخرة؛ إنّ الله على كل شيء قدير(20) يعذِّب من يشآء و يرحم من يشآءُ، و إليه تقلبون(21)" العنكبوت
"و أنّه خلق الزوجين الذكر و الأنثى(45) من نطفة إذا تُمنى(46) و أنّ عليه النشأة الأخرى(48)" النجم
"نحن قدّرنا بينكمـ الموت و ما نحن بمسبوقين(60) على أن نبدّل أمثالكم و ننشئكم في ما لا تعلمون(61) ولقد علمتمـ النشأة الأولى فلولا تذكرون(62)" الواقعة
فهناك نشأتين، نشأة أولى للبشر الهمج و نشأتنا عند نفخ الروح فينا من نفس هذا البشر. وحقبة البداية هي نفسها حقبة النهاية :
"الله يبدؤ الخلق ثمّ يعيده ثم إليه ترجعون" الروم30/11
و من يزال بعد كلّ هذه الآيات شاكا فليقرأ قوله تعالى :
"منها خلقناكم وفيها نعيدكم و منها نخرجكم تارة أخرى" طه 20/55
إنبات أول من الطين ثم عودة إليه بالموت ثم إنبات مرّة ثانية "تارة أخرى" هي عين الإخراج الأولى. فهل يستطيع النبي الكريم أن يخطّ هو هذا الكلام؟ وهل "أخرى" أتت للضرورة الشعرية كما يقول من لا يفقه؟
إنّ الإشكال الواقع اليوم في تساؤلات رجال علم الحي (البيولوجيا) هو في ماهية القفزة النوعية من بشر همج إلى إنسان واعي عاقل، ولا شك أن الداروينية تجاوزها العلم باكتشافنا للجينات االمميزة للكائنات الحية وأغرب نتائج البيولوجيا الجزيئية الحديثة أنّ الكائنات لم تنشأ وفق ترتيب عمودي و إنّما نشأت منذ البداية من خلايا مختلفة تحمل رموزها الجينية من أوّل لحظة، وما يقرره فرنسوا جاكوب عالم البيولوجيا الجزيئية الفرنسي هو انتماء هذه الخلايا إلى خلية أم فرضية. فعندما نتأمل عائلة الثدييات (الإنسان و الشمبونزي و الفرس و الكلب و سمك العنبر و الأرنب و الكانقورو ...) كما يقول عالم البيولوجيا الجزيئية دانتون في كتابه (نظرية التطور في مأزق) نجد أنّ الفروق الجينية بين كل فردين من هذه العائلة متساوية و عددها 65 فرقا تقريبا و النتيجة هي استحالة اعتبار فرد من هذه الأفراد منبثقا من آخر بل هذا الفرق الثابث بين الأفراد يجعلنا نثبث أنّ هذه العائلة تنزل من فرد واحد فرضي. و كذلك الأمر في عائلات الطيور و الحشرات و غيرها، ممّا يثبث أنّ كل عائلة تنحدر من خلية أمّ و أنّ مجموع الخلايا الأم تنحدر من أمّ أولية.
و نعود لموضوعنا الأساسي وهو ظهور آدم من سلسلة البشر الهمج و تحولّه إلى إنسان بنفخ الروح فيه، ولنقرأ الآية الكريمة :
"و ربّك الغني ذو الرحمة؛ إن يشأ يذهبكم و يستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قومـ ءاخرين"
الأنعام 6/133
وهذه الآية أساس في وصف نشأتنا كإنسان عاقل من ذرية قوم آخرين وهي حدث فريد بدليل قوله تعالى "إن يشأ" أي أن االمشهد حدث مرّة واحدة و بدليل قوله "ما يشاء" التي تحمل وجود هؤلاء البشر الأوائل ووجودنا نحن
الذين نشأنا منهم، فمن هم هؤلاء "الأخرين" التي تشير إليهم الآية
و إلى هذين الطورين و إلى الحدث الفريد الذي جعل الإنسان ينحدر من "ذرية قوم ءاخرين" تشير الآية الكريمة :
"هو الذى خلقكم من طين ثمـ قضى أجلا، وأجل مسّمى عنده، ثمـ أنتمـ تمترون" الأنعام 6/2
و لقد انقضى أجل البشر الهمج الغير مذكور و سينقضي أجلنا الذي نحن نمتري فيه شأن الهمج السابقين و كأنّ المولى لم ينفخ فينا الروح. ولن أواصل في عرض بينات البلاغ المبين فهي كثيرة و ما كتبته نافذة لمن يريد الغوص أعمق عسى الله أن يفتح عليه ببركاته الواسعة.
و قبل أن نصل إلى علاقة آدم الإنسان الذي نُفخ فيه الروح بالبشر الهمج يجدر بنا أن نقف في كيفية خلق آدم الإنسان و القفزة النوعية التي حدثت فجأة من بشر همج إلى إنسان عاقل واع. ولنبدأ بقراءة الآية الكريمة :
"و إذ قال ربّكَ للملائكة إنّى جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدمآء و نحن نسبّح بحمدك و نقدس لك، قال إنّى أعلم ما لا تعلمون"
البقرة 2/30
إنّ الحوار هنا ليس بين ربّ العزة فاطر الكون بما فيه من عالمين و بين قوى ملائكية و إنّما الحوار بين الملائكة و سيدها التي تخضع له و تأتمر بأمره، فرب العزة فاطر الكون :
"إنّما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون" يس 36/82
و رب الملائكة قرّر إعلان الطور الجديد بدليل لفظ "جاعل" الذي يفيد وجود آدم في صورته البشرية أولا و إعلان تحويل ذاته إلى خلق آخر في نفس الصورة. إعلان خلافة آدم رُفِضَ بكون هذا الجنس الهمج يفسد في الأرض و يسفك الدماء و هو دليل آخر لما قلناه سابقا.
و تواصل آيات البقرة قصة خلق آدم و نفخ الروح فيه
"و علّم ءادم الاسماء كلّها ثمّ عرضهم على الملائكة فقال أنبؤني بأسمآء هؤلآء إن كنتم صادقين(31) قالوا سبحانك لا علم لنا إلاّ ما علمتنآ، إنّك أنت العليم الحكيمـ(32)
قال يآدم أنبئهم بأسمائهم، فلمّا أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إنى أعلم غيب السموات و الأرض و أعلم ما تبدون و ما كنتم تكتمون(33)" البقرة
فآدم عُلّم بما به يعلم كل الكون المحيط به "الأسماء كلّها" وطريقة تعليمه قد تكون جينية و قد تكون بقوى لم نصل إلى إدراكها بعد. وتفيد أداة "ثم" الزمن الفسيح الذي تمّ فيه تقديم العرض للملائكة في مجاراة آدم في التفاعل مع المحيط واكتشاف أسراره و الآية إذن تصور حدثا متأخرا عن الخلق و نحن نعيش زمن هذا العرض و هذه القوى الملائكية ترى حقيقة ما يستطيعه الإنسان من سبر أسماء الكون و معرفته بالموجودات و علاقاتها ببعضها بعض. و الملائكة ليست معلّمة لإدراك محيطها "لا علم لنا إلاّ ما علّمتنا" ولا يملكون قدرة إدراك حكمة المرور إلى الطور الجديد "إنّك أنت العليم الحكيمـ". وأنبّه أن استعمال القرآن للفظ "قال" يراد به تصوير الحدث بحق وليس المراد ب "قال" خطابا أو حوارا أو ألفاظا. ف "قال ربّك" و "قالوا" أقل" تبين لسان حال الأفراد المعنيين في الحدث.
و تواصل آيات البقرة:
"و إذ قلنا للملائكة اسجدوا لأدم فسجدوا إلاّ إبليس أبى و استكبر و كان من الكافرين" البقرة2/34
و الأمر بالسجود هو أمر بالخضوع و السير وفق برنامج مودع في الملائكة للخضوع لآدم و قد سبق في مواضيع عدّة أن تطرقنا لمدلول السجود في البلاغ المبين فليرجع إليها من شاء. و نلاحظ التحول في الضمير من "و إذ قال ربُّك" إلى "و إذ قلنا" وتصور الآية أنّ خضوع الملائكة و سجودهم متتابع و دخولهم تحت سيطرة ءادم تجيء متتابعة ملكا بعد ملك وكل ملك يدل على من بعده في حلقة متصاعدة أمّا ماهية الملائكة فقد تعرضنا لواحد منها و أعظمها في سورة النجم عند الحديث عن حادثة الإسراء. و سجود الملائكة يحدث في مساجد الفيزياء الذرية و الجزيئية واحدا بعد آخر و لذلك جاءت الآية ب "قلنا" للتعبير عن هذا الدخول المتتابع.
هل يقدر أي مخلوق على إبداع هذا النظم "قال" "قالوا" "قلنا" للتعبير عن كل هذه الحقائق بتغير الضمير فقط؟ و أترك موضوع إبليس و إبلاسه و لبسه لموضوع مستقل، و أسجل فقط انّ إبليس واحد من الملائكة يرفض السجود و الوقوع تحت سيطرة ءادم. و رفض إبليس للأمر ليس رفضا لأمر الله الخالق فاطر الكون بل رفض لرب الملائكة و المكلف بتسيير العرش و تعهده ويستحيل لمخلوق أن يقف رافضا أمر فاطر السماوات و الأرض. ولقد حُبس إبليس وجٌعل "من المرجومين" و أمهل كشف ماهيته إلى اليوم المعلوم.
ونصل الآن إلى مفهوم الشجرة التي نُهي آدم من الإقتراب منها و للنواصل قراءة آيات البقرة :
"و قلنا يآدم اسكن أنت وزوجك الجنّة و كلا منها رغدا حيث شئتما و لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين(35) فأزلّهما الشيطان عنها فأخرجهما ممّا كانا فيه، و قلنا اهبطوا بعضكمـ لبعض عدو، ولكمـ في الأرض مستقر و متاع إلى حين(36)" البقرة
لقد اعتبر المفسرون "الشجرة" المعرّفة بالألف و اللام شجرة فاكهة من جنس التفاح أو الكافور أو العنب أو التين أو القمح وانساقوا إلى روايات مختلفة متضاربة و الحق أمامهم لا يحتاج إلى من يتمه من خارجه و لم ينتبهوا أنّ القرآن قال عنها "الشجرة" تعريفا ولو كانت شجرة فاكهة لوضح ماهيتها. و لو أنّهم تمعنّوا لحظة في آيات البقرة أعلاه لأبصروا أنّ آدم و زوجه نُهيا من الإقتراب من الشجرة "لا تقربا هذه الشجرة" فضلا أن يذوقا منها أو أن يأكلا منها. وقبل أن نعرف دليل لفظ الشجرة في البلاغ المبين يجدر بنا أن نقرأ الآيات الكريمة :
"و يآدم اسكن أنت و زوجك الجنّة فكلا من حيث شئتما و لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين(19) فوسوس لهما الشيطان ليبدىَ لهما ما ورىَ عنهما من سوءاتهما و قال ما نهاكما ربّكما عن هذه الشجرة إلاّ أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين(20) و قاسمهمآ إنى لكما لمن الناصحين(21) فدلاّهما بغرور؛ فلمّا ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما و طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنّة، و ناداهما ربّهمآ ألمـ أنهكما عن تلكما الشجرة و أقل لكمآ إنّ الشيطان لكما عدو مبين(22)" الأعراف 7/19 ـ 22
وتبقى الشجرة المنهي عنها معرّفة ويبقى السؤال :هل يذوق الإنسان من الشجرة إن كانت شجرة فاكهة أم يذوقها؟
ما معنى "فلمّا ذاقا الشجرة"؟
وانظر معي أخي القارئ مدلول لفض "ذاق" في البلاغ المبين لتدرك أنّه لا يتعلق أساسا بالمأكل و المشرب :
"فذاقت وبال أمرها" الطلاق 65/9
"ذاقوا بأسنا" الأنعام 6/148
"و تذوقوا السوء" النحل 16/94
"ليذوقوا العذاب" النساء 4/56
"لا يذوقون فيها الموت إلاّ الموتة الأولى" الدخان 44/56
"ذوقوا مسّ سقر" القمر 54/48
"لا يذوقون فيها بردا و لا شرابا" النبأ 78/24
"هذا فليذوقوه حميم و غساق" ص 38/57
"فأذاقها الله لباس الجوع و الخوف" النحل 16/112
"فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا" الزمر 39/26
"و إذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها" الروم 30/36
"أو يلبسكم شيعا و يذيق بعضكم بأس بعض" الأنعام 6/65
من مجموع أكثر من 60 آية واحدة فقط تتحدث عن ذوق الشراب أصبحت هي المرجع عند اللغويين و المفسرين و أصبح الذوق مرادفا للمطعم و المشرب و أصبح غيرها من الآيات استعارة و كناية و مجاز. و غاب الحق من البلاغ المبين ليحلّ محلّه قواعد النحاة و المفسرين. إنّ تحطيم هذه القواعد هو إعادة لكتاب الله ليشعّ نوره من جديد.
ولنعد للآية "فلمّا ذاقا الشجرة" لنتأمل. فلو أتت الآية بصيغة "فلمّا ذاقا من الشجرة" لدخلنا الشك في دلالة الشجرة إذ ذاق لا تتعلق أساسا بالمطعم فكيف و الآية أتت بصيغة "فلمّا ذاقا الشجرة"!!!
كثير من الذين لم يطمئنوا للبلاغ المبين يصححونه بخطهم الأحمر السمج فيقدروا محذوفا لتصبح الآية "فلمّا ذاقا من الشجرة" و يصبح المعنى أنّ آدم أكل من شجرة فاكهة و يبحث المفسرون بعدها عن اسم هذه الشجرة في مروياتهم المختلفة.
و قبل أن نحدّد معنى "ذاقا الشجرة" علينا الآن أن نحدد مدلول لفظ "الشجرة" في البلاغ المبين. فلنقرأ هذه الآيات :
"فلا وربّكِ لا يؤمنون حتّى يحكموك فيما شجر بينهم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجا ممّا قضيت و يسلّموا تسليما"
النساء 4/65
"و إذ قلنا إنّ ربّك أحاط بالنّاس؛ و ما جعلنا الرّءيا التى أريناك إلاّ فتنة للنّاس و الشجرة الملعونة في القرءان؛ و نخوّفهم فما يزيدهم إلاّ طغيانا كبيرا"
الإسراء 17/60
"أفرأيتمـ النار التى تورون(71) ءأنتم أنشأتم شجرتهآ أمـ نحن المنشئون(72)"
الواقعة 56/71 ـ 72
هذه الآيات تعطينا دلالة الشجر وفعله شجر الذي يدل على كل شيء له أصل واحد و تفرعّ من هذا الأصل فروع و الشجر في البلاغ يقابل النجم " والنجم و الشجر يسجدان" و هو يدل أنّ التفرع الناشء عن أصل الشجر يقاوم قوى الجذب عكس النجم الذي يخضع لقوى الجذب بفعل عظمة هذه القوى.
فآية النساء تدل أنّ ما حدث بين المتخاصمين تشعبّ و تفرع و تداخل و آية الإسراء تجعلنا ندرك أنّ الشجرة ليست فاكهة إذ النبات أيّا كان لا يلعن "الشجرة الملعونة" بل الشجرة التي تقصدها الآية هي ما تفرّع من ذرية إبليس الملعون. و آية الواقعة تحدد مفهوم التشجر إذ شجرة النار هي ما يتفرع منها حال اشتعالها و إنشاء شجرتها يقودنا إلى التفكير في كيفية انبعاث شجرة النار بوجود الأوكسجين و إيقاف الآزوت لشجرة النار و التوازن بين وجود الآزوت و الأوكسجين في قميص كوكبنا الأزرق لضبط شجرة النار.
إنّ الشجر في التعبير القرآني مفهوم عام يدخل فيه كل ما يتشجر وسلالات البشر شجرة و الفاكهة شجرة و النار شجرة و الصراع المحتدم حال الفتن شجرة و هكذا ألفاظ القرآن يدخل فيها الموجودات بقدر حملهم لمعانيها.
هكذا إذن انساق آدم وزوجه إلى صوت الوهم ودعوته فهو قد أخبره أنّ النهي عن قرب الشجرة لا يخصه بل يخص غيره و هو وزوجه غير معنيين بالنهي :
"فوسوس لهما الشيطان ليبدىَ لهما ما ورىَ عنهما من سوءاتهما و قال ما نهاكما ربّكما عن هذه الشجرة إلاّ أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين(20) و قاسمهمآ إنى لكما لمن الناصحين(21) فدلاّهما بغرور؛ فلمّا ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما و طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنّة، و ناداهما ربّهمآ ألمـ أنهكما عن تلكما الشجرة و أقل لكمآ إنّ الشيطان لكما عدو مبين(22)"الأعراف 7/20 ـ 22
و صوت الوهم يقول لآدم ناصحا:
أنت لست ملَكا و لست خالدا"إلاّ أن تكونا ملَكين أو تكونا من الخالدين" و هذا التعبير يستعمله القرآن و نستعمله عندما نقول "دخولك حمام الرجال ممكن إلاّ أن تكون امرأة" وهكذا خاطب الوهم "الشيطان" آدم بقوله: يمكنك أن تقترب من الشجرة فأنت لست ملَكا أو خالدا تختلف عن الشجرة في بنيتها بل أنت من نفس جنسها ويمكنك أن تذوقها و ما الذي تختلف به عنها "و دلاّهما بغرور" وانساق آدم لصوت الوهم و ذاق الشجرة هو و زوجه ونسيا أنّ الله نفخ فيهم الروح ورفعهم إلى طور الإنسان العاقل الواعي الخليفة في الأرض الذي يحمل مسؤولية بحث الحياة في الكون بمعرفته ونسوا أنّ الله حماهم في جنّتهم عن شجرة الهمج ولكن صوت الشيطان غلب كعادة كلّ من يستحل المعصية، إذ يبدأ بتبرير توجيه الخطاب إلى غيره و أنّه ليس معني به ليقتحم الإثم قرير النفس و البال وتلك عادة بني آدم.
و نعود للآيات القرآنية فهي الملجأ و النور ونلحظ هذه العبارات :
"لا تقربا هذه الشجرة" البقرة
و الذي يفاجئنا أنّ الشجرة معرّفة و لكنّها لم تذكر في السورة و لم تعرّف ماهيتها، و مجيئها