ســــــــلمية المــــــــــــاغوط للأستاذ المحامي ناصر الماغوط

عضو جديد

ســــــــلمية المــــــــــــاغوط

المحامي ناصر الماغوط

29 تموز, 2008

لو طلبنا من شخص ما أن يعرف عن نفسه لقدم لك بطاقة هوية أو جواز سفر أو أية وثيقة تثبت شخصية حاملها. لكن لوطلبنا من أمة ما أن تعرف عن نفسها، لقدمت لك كتابها ومثقفيها ومفكريها وعلماءها،فهم خير من يعرفون عنها. للأمانة الأخلاقية، لست صاحب هذا القول، وأعتقد بأن قائله رسول حمزاتوف، وهو دائما يخطر على بالي وأردده في كل مناسبة وبوسعي أن أدعي أنني صاحبه لو عملت بنصيحة وزير الإعلام النازي غوبلز الذي قال: اكذب الكذبة ورددها ثلاث مرات تصبح حقيقة..

ومدينة سلمية هي غنية عن التعريف، ذكرها المتنبي في إحدى قصائده، وفيها عاش الإمام عبد الله المهدي ومنها انطلق نحو شمال إفريقيا وبنى هناك مدينة المهدية التي لا تزال قائمة حتى اليوم في تونس حيث بسط دولته الفاطمية على كامل تراب شمال إفريقيا، ثم تمركزوا في مصر وبنو القاهرة التي صارت على مدى أكثر من مائتي عام عاصمة لدولتهم التي امتد سلطانها على معظم أرجاء الوطن العربي. لذلك قال المفكر والأديب طه حسين بأن "سلمية هي أم القاهرة".

مدينة سلمية المعروفة تاريخيا، زاد في شهرتها محمد الماغوط كونه أحد أبنائها، وقد كتب عنها قصيدة رائعة حملت نفس العنوان قال فيها: "سلمية، الدمعة الذي ذرفها الرومان على أول أسير فك قيوده بأسنانه ومات حنينا إليها. سلمية، الطفلة التي تعثرت بطرف أوروبا وهي تلهو بأقراطها الفاطمية وشعرها الذهبي، وظلت جاثية وباكية منذ ذلك الحين، دميتها في البحر وأصابعها في الصحراء. يحدها من الشمال الرعب ومن الجنوب الحزن ومن الشرق الغبار ومن الغرب والأطلال والغربان. في كل حفنة من ترابها جناح فراشة أو قيد أسير. حرف للمتنبي أو سوط للحجاج. أسنان خليفة أو دمعة يتيم".

في مدينة سلمية الماغوط، وبين التاسع عشر والرابع والعشرين من شهر تموز الجاري تم عقد مهرجان محمد الماغوط المسرحي في دورته الثانية وذلك برعاية وزارة الثقافة ومجموعة ماسة الاقتصادية. وفي نشرة المهرجان قام الشاعر والمحامي نورمان الماغوط بنشر مقال رائع بعنوان "تيجان من ذهب"التقط فيه فكرة قد يكون أول من تنبه إليها واشار إليها، ألا وهي أهمية وعمقدلالة العنوان الذي كان يختاره محمد الماغوط لقصيدة أو ومقالة من قصائده ومقالاته. وأعتقد بأن الكثيرين من النقاد قد كتبوا واستفاضوا عن أهمية أعمال محمد الماغوط وعن عمق موهبته وإبداعه لكن، على حد علمي، لم يلتقط أحد هذه هذه الميزة التي جعلت من العنوان لدى محمد الماغوط علامة فارقة تميزه. وبقدر ما نقرأ عمل محمد الماغوط ونستوعبه، بقدر ما نشعر بأن العنوان عنده هو تلخيص شديد وتركيز كثيف جدا للعمل، قصيدة كان أو مقالة أو مسرحية.

كنت أعرف محمد الماغوط رحمه الله عن قرب شديد، وهذا ناتج عن سببين، أولهما القرابة المباشرة التي تربطني به، والثاني هو إيمان عميق بأدب محمد الماغوط الذي كنت وأنا جالس أمامه، أسأل نفسي وأناأتأمل ذلك العملاق الحزين، الصامت في أغلب الأحيان: يا إلهي، هل هو حقا كاتب تلكالأعمال العظيمة، أم هو وحي وإلهام إلهيين؟

يقول زكريا تامر في مقدمته الرائعة لكتاب محمد الماغوط "سأخون وطني" بأن هذا الكتاب هو شهادة فاجعة على مرحلة مظلمة من حياة العرب في العصر الحديث، وتصلح لأن ترفع إلى محكمة الأحفاد كوثيقة تدحض أي اتهام بالتقصير والاستكانة يوجه إلى الأجداد. وهذا القول يصح على كل أعمال محمد الماغوط التي كتبها في مرحلة كانت الناس تخاف فيها من خيالها. وقد دفع الكاتب ثمن ذلك من حساب صحته وأعصابه، واستعان بصحاريج من الوسكي، وما طوله ألاف الأمتار من السجائر كي يخفف من قلقه ومخاوفه من نتيجة كتاباته. وقد عبر عن هذه الحالة في عبارة رائعة في أحد مقالاته حينما قال: إن كتبت أموت من الخوف، وإن لم أكتب أموت من الجوع. وفي مقال آخر قال بأن قدر الإنسان في هذه المنطقة أن يكون أحد اثنين: نسر خائف أو فأر مطمئن. وقد اختار محمد الماغوط أن يكتب حتى ولو مات من الخوف، وحافظ على نفسه نسرا محلقا لكنه لم يترك وطنه ولا يوما واحدا هربا من الخوف، بل واجه خوفه وقلقه بمزيد من الجرأة، على مبدأ وداوني بالتي كانت هي الداء. هذه الحالة الثنائية من القلق وزيادة الجرأة في ملامسة الخطوط الحمراء، هي ما جعلت السنوات القليلة الأخير من حياة محمد الماغوط، وبعد أن هده التعب والأرق، يفقد الكثير من بريقه الذي تميز به على مدى العقود الإبداعية التي عاشها. ولكن قد يكون من الطبيعي أن يعجز أي كائن بشري على أن يبقى محمد الماغوط بكل تميزه وألقه وجرأته وعنفوانه لفترة طويلة.

محمد الماغوط هو فخر لكل عربي، وقد كتب عنه الراحل نبيل خوري صاحب وناشر مجلة المستقبل من باريس في الثمانينات بأنه في كل أسبوع يتحول إلى قارئ عادي وينتظر مقالة محمد الماغوط بلهفة مع أنه كان يخاف منها على محمد الماغوط وعلى المجلة، كما ذكر الكاتب أيضا أن مجلة نيوزويك الأمريكية الشهيرة قالت بأن محمد الماغوط هو ظاهرة غريبة، وتستحق الوقوف عندها طويلا.

محمد الماغوط هو تراث إنسانيخالد، هو أكبر من أن تقول عنه أنه عربي أو سوري أو من سلمية أو من بيت الماغوط أومن الحزب القومي أو الأممي. محمد الماغوط هو شرف كبير للعرب ولسورية ولسلمية التي هي أم القاهرة.

محمد الماغوط هو مرحلة هامة من مراحل تطور سلمية، هو الذي جعل كل من يسمع بسلمية يتذكر محمد الماغوط، حتى أنه بنظري قد ساهم في إضفاء صفة على سلمية على أنها بلد المثقفين والشعراء. وهذا صحيح نسبيا إلى حد ما. فمنها خرج الكثير من الكتاب من أمثال سليمان عواد أحد رواد الشعر الحر ومجموعة من المثقفين من آل الجندي، من أمثال سامي وأحمد وعلي وعاصم وأنور الجندي، كذلك الشاعر فايز خضور والشاعر صدر الدين الماغوط والناقد علي أمين الذي كرمه مهرجان الماغوط في دورته الأخيرة، وغيرهم الكثير من الكتاب الذين تميزوا من سلمية، وهم على كثرتهم، فقد أثروا الحياة الثقافية وساهموا في رفع اسم سلمية عاليا، وهم جميعا، وبلا استثناء، قد اعترفوا بأن محمد الماغوط هو العلم الذي كان ولايزال وسيبقى مرفرفا فوق عمارتهم الثقافية الشاهقة التي بنوها جميعا بجهودهمالمتضافرة.