لا يجب تقديم الاعتزال كفرقة اسلامية تنسب إلى أفراد بل كفكر لعبت الظروف السياسة و الاجتماعية دورا كبيرا في نشأته و تطوره, فبين اعتزال واصل بن عطاء مجلس الحسن البصري و اعتزال الخلاف السياسي حول مقتل الخليفة المسلم الثالث نشأ الاعتزال على أساس فكري عقدي هو التوحيد و العدل و هو أساس الأصول الخمسة الشهيرة للمعتزلية.
إن لدراسة المعتزلة شهية خاصة, في نفس الوقت الذي تحمل فيه من الخطورة الكثير عند نقلها إلى الواقع المعاش بإخراجها من زمانها و تعميم شعاراتها العريضة دون اعتبار للمنهج و أهم هذه الشعارات "تقديم العقل على النقل" و هذا شعار غالبا ما يؤخذ على ارساله دون تدقيق أو منهجة.
جميعنا نحترم العقل, لكن أين المرجعية فيه و كيف تعامل المعتزلة مع تقديم العقل, و هل المجاز هو سلطان للعقل على النقل ؟! دعونا نبدأ مع الأصول الخمسة.
أولا: التوحيد ..
و هو أصل في غنى عن شرحه, و رأى المعتزلة (و هذا ليس رأي حصري لهم) أن التوحيد يستوجب تنزيه الله عن التشبيه أو التجسيم و أن تكون الصفات الإلهية حصرية , و مثال على ذلك صفة (الآخِر) و التي حملتهم على نفي أبدية الجنة و النار.
ثانيا: العدل ..
لا يكلف الله نفسا إلا وسعها, بل يعلمهم و يكلفهم من ثم يحاسبهم على قرارتهم التي لا هي جبرية و لا قدرية.
ثالثا: الوعد و الوعيد ..
لا يخلف الله وعدا, و كما يوجد الثواب يوجد العقاب, و الخلود في النار لمرتكب الكبائر.
رابعا: المنزلة بين المنزلتين ..
و هذا أساس ما أدى إلى اعتزال واصل بن عطاء مجلس الحسن البصري, فرأي المعتزلة أن مرتكب الكبائر لا يسمى مؤمنا بل يسمى فاسقا, و إن اعتبر مسلما في الدنيا فهو خالد في نار الآخرة.
خامسا: الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ..
بالإضافة لاعتبار المعتزلة أن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر يعرف عقلا, فإنهم اعتبروه أصلا لا يقوم الدين إلا به و لذا يتضمن القيام على الحاكم الجائر عند المقدرة.
الحق أن السياسة لعبت الدور الأهم فى نشوء كل الفرق الدينية بين المسلمين. و ما انقسام المسلمين إلى سنة و شيعة إلا نتيجة لخلاف سياسي فيمن يلى خلافة المسلمين و أحقية أهل البيت دون سواهم بهذا الأمر
و أول بوادر فكر المعتزلة نشأت آبان الدولة الأموية عندما روج الأمويون لفكرة الجبرية و أن ما يجرى فى الكون انما هو بأمر الله و إرادته و ليس لنا ان نعترض عليه و الا خرجنا من دائرة الإيمان إلى الكفر و الضلال. و هو قول قد يبدو وجيها و صحيحا و لكن الأمويين عمدوا اليه لكى يبرروا جرائمهم و عسفهم ..فما حدث منهم و يحدث لا ذنب لهم فيه بل هو ارادة الله و مشيئته. و معاوية ابن ابى سفيان عندما يقول كان أن المال مال الله و انما نحن متصرفين فيه و رده أحدهم إنما هو مال المسلمين كان يقصد معاوية انه لا مجال للناس على محاسبته كيف ينفق مال الدولة و كان قصد من رده ان يقول له بل يحق للمسلمين حسابك لأنه مالهم
و لذا لا نعجب عندما نجد الدولة الأموية تحارب القدرية و تضيق عليهم . فهاهو هشام بن عبد الملك يحاكم غيلان الدمشقى لكفره و خروجه عن الملة و يقتله. و غيلان هذا ممن قال بقدرة الإنسان على خلق أفعاله و أن له مشيئة منفردة و لذا فان الله يحاسبنا على أفعالنا و لو لم يكن هذا صحيحا لصارت الدنيا مسرحية سخيفة .فالله يخلقنا و يجبرنا على افعالنا ان خيرا أو شرا بدون ارادة منا او قدرة ثم يحاسبنا على افعاله هو و يدخلنا الجنة او النار. غير أن الحقيقة ان هشام لم يقتل غيلان الدمشقى لرأى دينى بحت بل لأن غيلان من منطلق مسؤلية الانسان عن افعاله كان يرى بوجوب حساب بنى امية و ردهم عن ظلمهم. و قد كان غيلان هذا هو الساعد الأيمن لعمر بن عبد العزيز عندما ولى الخلافة و شرع فى مصادرة أموال بنى أمية و ردها لبيت المال و هو ما انتهى بعمر بن عبد العزيز و ابنه مسمومين بيد البيت الأموى و غيلان مقتولا على يد هشام
و يذكر لنا التاريخ مناظرة بين غيلان كواحد من القدرية و رجل يقول بالجبرية (أظنه كان ربيعة الرأى )
قال غيلان : ناشدتك الله , أترى الله يأمر بالمعصية
فقال الجبرى : ناشدتك الله , أو ترى الله يعصى رغم ارادته
و الحقيقة اننا لسنا هنا فى مجال تفنيد رأى الجبرية و القدرية و لكن المعتزلة كان اول ما قالوا هو بالقدرية حتى ان لفظة القدرية كانت فى وقت ما تعنى الاعتزال ( و انا شخصيا أوافق المعتزلة فى هذه النقطة)
. هذه الأصول الخمسة شرحها القاضى عبد الجبار فى كتابه شرح الأصول الخمسة عند المعتزلة شرحا مستفيضا و قيمة هذا الكتاب غالية حيث انه من المصادر القليلة لفكر المعتزلة التى لم تصادر و تدمرو بقيت حتى وقتنا. و الاعتزال كفكر نشأت إرهاصاته الاولى على يد رجال يقولون بالقدرية كغيلان و جهم بن صفوان و لكنه تبلور كمذهب فكرى على يد واصل بن عطاء. و كان واصل هذا تاجرا و تلميذا للحسن البصرى و يحضر دروسه حتى وقعت بينهم جفوة لاختلاف الآراء و أعتزل واصل و مؤيديه درس الحسن البصرى فسموا بالمعتزلة و كما سبق القول انهم لم يكونوا موضع الحب من الخلفاء الأمويين و أستمر الحال هكذا حتى الدولة العباسية فبدأ نجمهم فى السطوع. و يقال ان سبب هذا السطوع كان ان أحد الخلفاء العباسيين قد أعتقل احد المتكلمين من المعتزلة لأن علم الكلام كان ينظر له على انه بدعة. فعلم الكلام علم مستحدث لم يكن على عهد رسول الله و يقوم على دراسة الفلسفة و المنطق و استخدامهما أساسا للنقاش و استنتاج الأدلة العقلية. و فى يوم جاء عند الخليفة راهب برهمى و أخذ العلماء من أهل الحديث فى مناظرته حتى سألهم الرجل اسئلة من شاكلة من خلق الله و هل هو حادث بذاته أم قديم و عندها سكت المسلمون و قالوا هذه بدع لا نخوض فيها فاستشاط الخليفة غضبا و قيل له انه بحاجة الى رجل من أهل الكلام كى يرد على مثل هذه الاسئلة و انه يوجد أحدهم بحبسه فأحضره الخليفة من محبسة و بدأ المتكلم المناظرة مع البرهمى و أبلسه فسر الخليفة من هذا و قرب اليه المتكلمين و من يومها بدأ المعتزلة عصرهم الذهبى الذى بلغ أوجه أيام المأمون فقد كان رجلا ذكيا متعلما يحب المعتزلة و يقربهم و يضطهد اهل الحديث و عندما ادركه الموت أوصى المعتصم أخاه و خليفته بالمعتزلة خيرا. أما أفولهم و بداية أضطهادهم هم فكان أيا المتوكل الذى سأم سخط العامة من المعتزلة و اضطهاد اهل السنة فصادر اموال ابو داوود المعتزلى الشهير و أطلق العامة على المعتزلين ينكلون بهم كما شاءوا