الفصل السادس
الحاكم بأمر الله و«دارالعلم» ان الوصول إلى الداعي المثالي كما اشترطه النيسابوري في رسالته يتجاوز إلى حد بعيد مجال العلم الديني بحد ذاته. وكما سبقت لنا الاشارة، فقد كان من المتوقع للداعي المثالي امتلاك معرفة موسوعية في فروع علمية مختلفة، لانه قد يجابه في اي وقت بواحد من اهل التضاد الذي قد يكون ضليعا في واحد أو أكثر من هذه المجالات والذي قد يهزمه بسهولة ويسخر منه إذا لم يكن مثقفا.
ولم توجد في العالم الاسلامي في العصر الوسيط أية مؤسسة ثقافية كان بامكانها توفير معرفة موسوعية من هذا الطراز. صحيح انه ؤجدت مع « المدرسة » مؤسسة ثقافية ذات مستوى ونوعية رفيعة، الا أن التعليم في «المدرسة» اقتصر دائما على العلم « الديني ». اما دراسة أو تدريس الطب أو الفلك، الجبر أو الهندسة، فقد كانت في مكان اخر في حلقات مرجعيات غالبا ما كانت خاصة بكل واحد من تلك العلوم. لقد كان العالم الاسلامي في العصور الوسطى متفوقا على اوربا في تلك الفترة في جميح الفروع العلمية ؛ لكنه، وخلافا للوضع الذي ساد معظم الاوقات، لم يمتلك مؤسسة جمعت تلك الفروع كلها تحت سقف واحد _ اي، بعبارة اخرى، لم يمتلك أية جامعة.
هنالك استثناء وحيد. فقد اسس الخليفة الفاطمي السادس والإمام السادس عشر للاسماعيليين، الحاكم بامر الله ( 996_ 1021)، «دار العلم » في القاهرة سنة 1005 وكان يطلق عليه في بعض الاحيان التسمية المغلوطة «دار الحكمة» _ وهي تسمية مغلوطة من حيث أن«الحكمة» قد فهمت عموما على انها العلم الباطني الإسماعيلي الخاص، الباطن الذي كان ياتي من الإمام عبر الدعاة. غير أن مؤسسة الحاكم لم تخدم الدعوة، بل خدمت قبل الجميع، اولئك الذين اختصوا بالعلوم الدنيوية.
ولم يكن المعهد الذي اسسه الخليفة الفاطمي الاول من نوعه. فقد سبق للملك الساساني العظيم كسرى أنو شروان، من فترة ما قبل الاسلام، ان أنشا سنة 555م، في مدينة جنديسابور (في جنوب غرب خوزستان في ايران الحالية قرب الحدود العراقية )، نوعا من الاكاديمية العلمية التي اجتذبت اهل العلم من كل الفروع _ ولا سيما الطب والفلسفة _ ومن جمع البلدان. وقد عاشت هذه المؤسسة، التي ضمت مستشفى ايضا _ فترة لا باس بها في العصر الاسلامي، وفيها جرى اول اشكال الرصد الفلكي الدقيق بادوات دقيقة، وذلك قرابة نهاية القرن التاسع الميلادي.
ثم خدمت اكاديمية جنديسابور الخليفة العباسي المامون (813_ 823) كنموذج اطلق عليه «بيت الحكمة»، الذي اقامه في جناح في قصره في بغداد الذي فتحت مكتبته ابوابها لاهل العلم من أصول ولغات مختلفة. غير أن بيت حكمة المأمون لم يكن جامعة بقدر ما كان مكتبة ومكانا لعمل اهل العلم، الذين كانت مهمتهم الاساسية ترجمة الاعمال الفلسفية والعلمية للمؤلفين اليونان إلى اللغة العربية. واشتمل ايضا على مرصد كان الخليفة قد ابتناه قرب باب الشماسية في بغداد، وقادت اعمال الرصد التي جرت هناك، وهي التي اعتمدت على اعمال الفلكيين الهنود واليونان الاوائل، قادت إلى نتانج دقيقة وبارزة مثل ميل فلك البروج، وحدوث الاعتدالين، والمدى الدقيق للسنة الشمسية. وابتنى المامون ايضا، إلى جانب المرصد في بغداد، مرصدا اخر على جبل قاسيون قرب دمشق.
لكن يبدو أن هذه المنشات سرعان ما تدهورت عقب وفاة الخليفة. وعلى اية حال، لم تكن هذه المنشات النموذج الذي اتخذه الخليفة الفاطمي الحاكم في تاسيسه لمنشاته. بل أن النموذج الفعلي كان «دار العلم » التي أسسها الوزير الفارسي ابو نصر سابور بن اردشير سنة 991 أو 993، ابان العهد البويهي في الكرخ، الضاحية الجنوبية الشرقية من بغداد والتي يسكنها الشيعة. وضم هذا المعهد مكتبة احتوت على أكثر من (10000) كتاب.
ومن الممكن الزعم بانه توفرت للحاكم معلومات مفصلة حول هذا المعهد من خلال دعاته العاملين في بغداد والعراق _ ولا بد أن ذلك قد توافق مع وجود الكرماني في بغداد _ وان ذلك شجعه ليقوم بتطوير العلوم في امبراطوريته الخاصة بطريقة مشابهة أو حتى اكثر سخاء، وليرفع المستوى الثقافي لاتباعه. وتاريخ انشا داره العلمية لم يتاخر عن تاريخ انشاء تلك التي للوزير العباسي الا بحوالى اثنتي عشرة سنة حسب؛ فقد تاسست في 21 آذار سنة 1005 وفيما يلي رواية لصديق الحاكم بامر الله الحميم، ومؤرخ بلاطه، المسبحي (واقتبسها المقريزير ) :
»في يوم السبت هذا... افتتح في القاهرة ما سمي بدار العلم.. واتخذ الفقهاء مقاما لهم هناك، ونقلت اليها الكتب من مكتبات القصر. وكان في مقدور الناس زيارتها، ومن اراد نسخ اي شي يهمه كان باستطاعته فعل ذلك. كما كان يمكن لاي شخص يرغب في قراءة اية مادة محفوظة هناك. وبعد الأنتهاء من فرش البناء وتزتينه وتزويد جمع الابواب والممرات بالستائر، بدا باقامة المحاضرات من قبل قراء القرآن والنحويين والفلكيين، اضافة إلى الاطباء. وجرى استخدام الحرس والخدم، من اهل المنطقة ومن خارجها، ليقوموا بالخدمة هناك.
وجلبوا إلى تلك الدار جميع الكتب التي امر باحضارها امير المؤمنين الحاكم بامر الله، اي المخطوطات في جميع مجالات العلم والثقافة، إلى درجة أن لم يجتمع مثلها لامير قط. وسمح بالوصول اليها لجميع الناس من جمع مشارب الحياة، سواء اكان ذلك للقراءة والدراسة أو للغوص والتمعق فيها. ومن احدى النعم التي سبق ذكرها، والتي لم يسمع بمثلها من قبل، كانت منح رواتب اعاشة لجميع من عينهم هناك لتقديم خدمة _ فقهاء واخرين. وزار اناس من جمع مشارب الحياة الدار، بعضهم جاء لقراءة الكتب، واخرون لنسخها، واخرون بعد للدراسة.
وتبرع ايضا بما احتاجه الناس : الحبر وريش الكتابة، والورق، والمحابر. وكانت الدار (رسميا) هي دار مختار الصقلي ».(1)
ومختار «الصقلي»» المشار إليه في هذا المقتبس ينتمي إلى تلك الكتائب في الجيش الفاطمي التي تكونت من صقالبة من اصل اوربي، اطلق عليهم«صقالبة» بدون تمييز، وكان نقيبا في قلعة الخليفة في ظل سلف الحاكم، الخليفة العزيز. ونحن نعلم اين كان موقع بيته بالضبط. فقد حاد على الجانب الشمالي منه القصرين المتقابلين الواقعين إلى اقصى الغرب في وسط القاهرة ؛ وكان القصر الغربي الصغير هذا مقر اقامة ولي العهد المعين. غير أن البناء لم يعد موجودا، ومع ذلك فان موقعه داخل المخطط التنظيمي للقاهرة يمكن تحديده نظرا لان مسجد اقمر القائم، والذي جاور القصر الشرقي الكبير، قام في مواجهته تماما.
اما انواع الفنون التي تم تعليمها في دار العلم فبالامكان استنباطها بوضوح من نص المسبحي المقتبس اعلاه، وهو المصدر المعاصر لتلك الفترة الوحيد حول الموضوع. ومن بين اهل العلم الوارد ذكرهم والمرتبطين بذلك العهد، القراء ( قراء القرآن )، والفقهاء، وخبراء الحديث ( المحدثون )، واللغويون والنحاة، والاطباء، واهل المنطق، والرياضيون والفلكيون.
وتساعدنا المجتزءات الباقية من كتاب الاخبار المفقودة للمسبحي في تتبع العمل في اكاديمية الحاكم عبر فترة طويلة إلى حد معقول من الزمن. يروي المسبحي تحت سنة 1012_ 1013:
«واستدعي من دار العلم عدد من الرياضيين، ومن اهل المنطق والفقهاء، وكذلك العديد من الاطباء مثلوا إمام الحاكم ؛ ومثل ارباب كل فن على حدة إمامه من اجل الجدال بحضوره، وقام اثر ذلك بتقديم الكسوة الفاخرة والهدايا اليهم ».(2)
اما ابرز اديب حاول الحاكم جذبه إلى دار العلم فقد كان الشاعر الضرير ابو العلاء المعري ( 973_ 1058) الذي عاش في بلدة معرة النعمان الصغيرة شمال سورية. ففي رسالة إلى امير حلب، دعا الحاكم المعري، احد اشهر شعرا اللغة العربية، إلى القاهرة، لكن الشاعر اعتذر عن عدم الحضور.
وكان المحاضرون في دار العلم يكافؤون بداية، وكما راينا، بمرتبات (ارزاق) كانت تدفع من بيت المال؛ وهذه هي الطريقة التي سبق اتباعها في دفع ارزاق الفقهاء الذين كانوا يعملون في الجامع الازهر في ظل الخليفة العزيز ووزيره ابن كلس. وبعد ذلك بخمس سنوات، أي في نيسان أو آيار من عام 1010، اقدم الحاكم على وضع المعهد الذي اسسه على قاعده اقتصادية جديده كليا، وذلك عن طريق ضمه إلى وقف كبير كان قد اوقفه لمساجد القاهرة الرئيسة الثلاثة (الازهر، وراشدة، والمقس).
ان صك التاسيس لم يصلنا بصورته الاصلية، لكن المؤرخ المصري المقريزي يقتبس منه مجتزاتين طويلتين نسبيا وفرتا لنا معلومات مفصلة حول وقف دار العلم. فقد تبرع الإمام الخليفة الحاكم من ملكه الخاص، بعدة اقطاعات وعقارات في الفسطاط (القاهرة القديمة ) لتامين نفقات كل من الجامع الازهر والجامع في الراشدة ودار العلم؛ اما الجامع في المقس فسوف يتلقى موارد منفصلة، تمثلت في الاموال غير المنقولة بدار ضرب النقود القديمة، وقاعة سوق الانسجة الصوفية الثمينة ( قيصرت الصوف )، وبناء آخر في سوق المدينة القديمة. ولم يتضمن الجزء من الصك المتعلق بالازهر اية اشارات اضافية إلى اية انشطة تعليمية هناك، ولذلك من الممكن الزعم بان معظم الدروس، أن لم يكن كلها، قد تركز الان في دار العلم الجديد.
وكان استعمال موارد الوقف الثابت الوارد اعلاه يشمل اولا وقبل كل شيء صيانة الابنية، بحيث يتم ضمان استمرارية الوقف. وسيتم تقسيم الفائض بعدئذ إلى ستين جزءا متساويا، تلقى منها دار العلم « عشر وثمن العشر» _ وهي في مجموعها 257 دينارا ذهبيا سنويا. وبينت مجتزأة الصك التي اقتبسها المقريزي على وجه الدقة كيف كان سيتم استعمال هذا المال تحديدا :
« 10 دنانير لشراء الحصر وامتعة بيتية اخرى : 90 دينارا لورق الكتاب، اي النساخ _ وهذا اكبر بند _ 48 دينارا لقيم المكتبة؛ 12 دينارا لشراء الماء، 15 دينارا للخدم ؛ دينار واحد لاصلاح الستائر ؛ 12 دينارا لاصلاح الكتب التي قد تمزق أو للاوراق المفقودة ؛ 5دنانير لشراء اللباد للاغطية في الشتاء، 4 دنانير لشراء السجاد شتاء ..»(2)
ومن سوء الطالع أن مجتزاء الصك تقف عند هذه النقطة ؛ فمجموع البنود الممذكورة هنا تصل إلى 209 دنانير حسب، ونبقى على غير علم بتوزيع بقية المبلغ _ 48 دينارا.
واعظم انجاز علمي لمعهد الحاكم تمثل في خارطة فلكية (زيج ) وبيانات مقارنة حول الكواكب والنجوم، وهو ما سمي بالزيج الحاكمي، وهي التسمية التي اطلقها عليه المؤلف، الفلكي احمد بن يونس الحاكمي، نسبة إلى الخليفة الحاكم. وقد حل الزيج، المسمى «بالزيج الحاكمي»، محل الزيج الاقدم الذي وضعه فلكيو الخليفة العباسي المأمون بمساعده مرصدي بغداد ودمشق. ولم يتوفر لفلكيي الحاكم اي مرصد فلكي، لان المرصد الذي بدا قاضي قضاة الحاكم، مالك بن سعيد، بتشييده سنة 1012 لم يكن قد اكتمل بعد، وبقي مهملا لاكثر من قرن كما سنرى فيما بعد.
اما ابن الهيثم، الذي كان طبيبا وفلكيا ورياضيا وفيلسوفا في أن معا، فقد كان الاكمل موهبة من بين العلما الذي عملوا في ظل الحاكم. وكان لعمله الرائد في مجال البصريات اثار بعيدة المدى في المفكرين الاوربيين في العصر الوسيط، وهم الذين صاروا يعرفونه باسم (Alhazen). وكذلك، فقد كان لدراساته اهمية رئيسة بالنسبة للابحاث في مجالي علم النجوم والاحوال الجوية.
وبعد الاختفاء الغامض للخليفة الحاكم سنة 1021، لم نعد نسمع اي شي حول النتائج العلمية التي حققتها دار العلم. ففي ظل الخليفتين التاليين، الظاهر (1021 _ 1036) والمستنصر (1036_ 1094)، يبدو ان دار العلم لم تعد تضطلع بأي دور ذي اهمية. بل يظهر انها وقعت ضحية الازمة العامة التي عانتها الدولة الفاطمية في منتصف القرن الحادي عشر والتي ادت إلى فوضى عامة في مصر اواخر الستينيات (1060).
وعندما قام الجنود والموظفون الذين لم يتلقوا مرتباتهم لبعض الوقت بنهب قصور الخليفة وكنوزه في شهري تشرين الثاني وكانون الاول سنة 1068، فانهم لم يعفوا عن نهب المكتبات ايضا، لان الكتب المخطوطة كانت بالنسبة للناهبين، اشياء لا تقل قيمة عن جواهر الكنوز. وتوفر روايات هذا الحدث معلومات مهمة حول غنى محتويات كل من القصر والاكاديمية.
واول ما أنتهب المغيرون المكتبة في قصر الخليفة : « وسرقوا منها 18000 مجلد في العلوم القديمة ؛ بالاضافة إلى2400 مخطوطة للقران بزخرفات ذهبية وفضية، كل ذلك أنتهبه الجنود الاتراك ... وفي شهر محرم شق خمس وعشرون جملا محملا بالكتب الطريق في يوم واحد من القصر الى منزل الوزير ابي الفرج محمد بن جعفر، وقام الاخير، هو (والوزيو الاسبق ) الخطير بن الموفق، باقتسام هذه الكتب في منزلهما (كتعويض) مقابل خدماتهما واموال موظفيهما، التي كان الديوان يدين بها لهما. وبلغت قيمة حصة الوزير ابي الفرج 50000 دينار، لكنها كانت تساوي في الحقيقة 100000 دينار.
لكن لم يكن مقدرا لابى الفرج الاستمتاع بغنيمته لفترة طويلة. إذ عندما اضطر هو نفسه، بعذ ذلك بشهر، للفرار من مصر، تم أنتهاب منزله ايضا ونثرت الكتب التي تملكها لتذروها الرياح في كل اتجاه ».(4)
اما دار العلم فلم يكن نصيبها بافضل من ذلك:
« وتم افراغ مكتبة دار العلم في القاهرة ايضا. وصارت ملكية العديد من الكتب بيد شخص بعينه هو عماد الدولة ابو الفضل بن المحترق في الاسكندرية؛ لكن عندما قتل الاخير، اخذ العديد منها إلى المغرب. وحصل بربر قبيلة لواته (الذين عاشوا بدوا على الطوف الغربي لدلتا النيل في ليبيا اليوم ) على عدد لا يحصى من الكتب الجميلة جمالا لا يوصف بواسطة الشراء أو السرقة واخذوها معهم. واستعمل خدمهم وجواريهم الاغلفة في صنع احذية لاقدامهم، أما بالنسبة للاوراق فقد احرقوها لانها جاءت من القصر، لاعتقادهم بانها تضمنت عقائد دينية للمشارقة (الإسماعيليين )، وهي عقائد تتناقض مع معتقداتهم (السنية ). وشكل الرماد تلالا عظيمة في منطقة الابيار (في دلتا النيل)، التي لا تزال حتى اليوم تدعى بتلال الكتب، ورميت كتب كثيرة في النهر أو اتلفت، لكن الكثير منها وصل العواصم الكبيرة (لبلدان اخرى)... »(5)
وهكذا تم تدمير دار العلم الاصلية للخليفة الحاكم. واستعمل البناء الحاوي لأغراض أخرى. ونقرأ أنه في سنة 1074_ أي بعد عملية النهب الفظيعة بعشر سنوات _ تم دفن داعي الدعاة المؤيد الشيرازي في دار العلم. وهذا يؤدي بنا إلى استنتاج أنه قد عاش هناك وعمل لبعض الوقت. وربما كان البناء قد خصص له لاستعماله مكتبا لعمله.
الهوامش1. المقريزي، الخطط، م ا، ص 458 وما بعدها.
2. المصدر السابق، م ا، ص 459.
3. المصدر السابق.
4. المقريزي، أتعاظ الحفا، م 2، ص 294 وما بعدها.
ه. المصدر السابق.