في العام (620هـ/ 1223م) كان جنكيز خان إمبراطور المغول قد حقق أهدافه الأولى، فقضى على الدولة الخوارزمية واكتسح بلاد ما وراء النهر واجتاح بخارى وسمرقند وغزنة وهراة وغيرها من المدن الإسلامية، مرتكباً فيها أنواع الفظائع. ومع ذلك فقد تهيب المغول بعض المعاقل الحصينة فارجأوا أمرها إلى حين، وكان من تلك المعاقل قلاع النزاريين المنيعة التي كانت معدة أحسن الإعداد للدفاع ولطول الحصار فضلاً عن موقعها الجبلي الصعب الولوج. فعاد جنكيز خان إلى بلاده ومات بعد أربع سنين وتولى بعده ابنه (اوغاتاي)، فاحتفل المغول بتنصيبه احتفالات حضرها مندوب لخليفة بغداد ومندوب لحاكم النزاريين في (ألموت) علاء الدين فيما حضر من ممثلي الدول الأخرى تلك المجاورة للمغول والمهددة بهم، كما حضرها بعض المندوبين المسيحيين. وبالرغم من المعاملة الحسنة التي عومل بها مندوب الخليفة، فإنه تسلم رسالة كلها تهديد ووعيد، أما مندوب النزاريين فقد عومل بغضب ومهانة، ولكل من المعاملتين أسباب وجذور ودلالات.. فوفد الخليفة يمثل سلطة لم يصطدم بها المغول اصطداماً مباشراً بعد، ولكنهم يتهيئون لهذا الاصطدام، فهم على ترحيبهم يريدون أن يفهموا الذين وراء الوفد أن عليهم التسليم أو انتظار عواقب عدم التسليم. وأما النزاريون فقد استطاعوا أن ينجوا من غزو جنكيز وان تظل قلاعهم سليمة ويظلوا هم سالمين، وهذا ما أثار حنق المغول عليهم حنقاً تجلى في مقابلتهم لوفدهم، وفيما بدر منهم بعد ذلك عندما تهيئوا للغزو العام. فقد أعلنوا بكل وضوح أن هدفهم استئصال النزاريين ولقوا بين المسلمين من يحرضهم على ذلك ويمهد لهم السبل. كان (منكوقاآن) حفيد جنكيز خان هو الذي انتهت إليه خلافة جنكيز، وكان هو الحاكم الذي تسير بإشارته جيوش المغول في كل مكان، وكان له عدة أخوة يقودون جيوشه ويحكمون باسمه، أحدهم هولاكو. على (منكوقاآن) هذا كان يتردد قاضي قضاة المسلمين شمس الدين القزويني، وكان هم هذا القاضي أن يثير حفيظة الإمبراطور المغولي على النزاريين ويحرضه على اقتحام بلادهم، فلم يترك وسيلة من الوسائل إلا استغلها لإنجاح مقصده. ويفجعك فيما يفجعك أن القاضي المحرض قد جعل من أبرز جرائم النزاريين انهم لا يدينون بالوثنية دين المغول، فلو دانوا بها لما كان عليهم من بأس عند قاضي المسلمين وإمامهم العالم الكبير، واستطاع هذا القاضي أن ينجح في مسعاه، فقضى المغول على دولة النزاريين، ولكنهم قضوا في الوقت نفسه على خلافة بغداد وأزالوا دولة العباسيين. وهنا نود لو سألنا ابن تيمية: من هو الذي ساعد المغول على الإغارة على بغداد وقتل من قتلوا؟. أهو قاضي قضاة المسلمين أم الإسماعيلية الذين استهدفهم تحريض القاضي ثم استهدفهم تنكيل المغول؟. يقول العريني: (صدرت الأوامر من الخان المغولي الأكبر بالتخلص نهائياً من هذا المذهب (الإسماعيلي) فتم الإجهاز على طائفة كبيرة من أقارب خورشاه، بينما تقرر حشد عدد كبير من الإسماعيلية بناء على طلب المغول لإحصاء عددهم، فتعرض الألوف من هؤلاء للقتل، ولم يبق على قيد الحياة إلا من اعتصم بجبال فارس. لقد كانت عصبية ابن تيمية تغشي على بصيرته فيقع في فضائح تاريخية وغير تاريخية مما ذكرناه). ومضى هولاكو بجيشه الجرار، معلناً أنه يمضي للتغلب على النزاريين ولما وصل إلى (كش) أقام مدة شهر ثم أرسل عدة رسل إلى الملوك والسلاطين (المسلمين) تشتمل على هذه العبارات: (بناء على أمر القاآن قد عزمنا على تحطيم قلاع الملاحدة وإزعاج تلك الطائفة، فإذا أسرعتم وساهمتم في تلك الحملة بالجيوش والآلات فسوف تبقى لكم ولايتكم وجيوشكم ومساكنكم وستحمد لكم مواقفكم، أما إذا تهاونتم في امتثال الأوامر وأهملتم فإنا حين نفرغ بقوة الله من أمر الملاحدة فإننا لا نقبل عذركم ونتوجه إليكم على ولايتكم ومساكنكم ما يكون قد جرى). ولبى الملوك والسلاطين والأمراء المسلمون نداء هولاكو لمعاونته في مهمته.. فأقبل من بلاد الروم السلطانان عز الدين وركن الدين، ومن فارس سعد بن الاتابك مظفر الدين ومن العراق وخراسان واذربيجان وشروان وجورجيا، الملوك والصدور والأعيان.. على أن الأمر لم يقف عند هذا الحد فبعد احتلال هولاكو لبغداد وزحفه إلى بلاد الشام، انضم إليه من انضم من ملوك المسلمين وساروا معه لقتال إخوانهم المسلمين ومعاونتهم في فتح البلاد.. نذكر منهم الملك السعيد ابن الملك العزيز ابن الملك العادل شقيق صلاح الدين الأيوبي الذي سلم لهولاكو الصبيية -وهي قلعة بأعلى جبل شاهق تطل على بلدة بانياس الواقعة في سوريا ويدعوها العوام قلعة النمرود- وانضم إليه في زحفه. ويقول عن ذلك أبو الفداء في تاريخه (ج3: ص204): (وسار الملك السعيد معهم (المغول) وأعلن الفسق والفجور وسفك دماء المسلمين). وفي معركة عين جالوت كان مع المغول يقاتل المسلمين، ولما انهزم المغول أسره المسلمون ثم قتلوه، وكان معهم أيضاً في هذه المعركة الملك الأشرف موسى صاحب حمص الذي استطاع الفرار عند حصول الهزيمة ولم يؤسر، وهو من أحفاد شيركوه عم صلاح الدين الأيوبي. وممن حرضوا المغول على غزو الشام ومصر الملك المغيث فتح الدين عمر بن العادل بن الكامل شقيق صلاح الدين الأيوبي، وبعد النصر الإسلامي في معركة عين جالوت قبض عليه الظاهر بيبرس (وأحضر الفقهاء والقضاة وأوقفهم على مكاتبات من التتر إلى المغيث أجوبة عما كتب إليهم من إطماعهم في ملك مصر والشام) ثم قتله الملك الظاهر. وبصيرة ابن تيمية المغشاة بعصبيته لا ترى شيئاً من هذا. على أن الأيوبيين في الجزيرة والشام كانوا أول من تعامل مع هولاكو فأرسلوا إليه يهادنونه ويخطبون وده، وقد أسرع الناصر الأيوبي نفسه إلى إعلان خضوعه للمغول وأرسل ابنه العزيز سنة (656هـ) بتحف وتقادم إلى هولاكو وصانعه، أما الأشرف موسى الأيوبي صاحب دمشق فقد أسرع في تقديم ولائه لهولاكو، في حين بادر المنصور بن المظفر الأيوبي صاحب حماه بالفرار إلى مصر تاركاً حماه وأهلها يلقون مصيرهم، ثم فر الناصر يوسف من دمشق وتركها فوضى. وممن يتجاهل ابن تيمية جرائمهم بدافع العصبية، كبار علماء هولاكو الذين وضعوا أنفسهم في تصرفه فعاونوه على سفك دماء المسلمين، ومنهم أبو بكر فخر الدين عبد الله بن عبد الجليل القاضي المحدث الذي ذكر صاحب كتاب (الحوادث الجامعة) أنه كان يتولى إخراج الفقهاء البغداديين ليقتلوا في مخيم هولاكو. إن الذي كان يدهم بيوت فقهاء بغداد ويخرجهم منها ويسوقهم إلى هولاكو ليقتلهم هو (القاضي المحدث) الملقب بـ(فخر الدين). إن حامل هاتين الصفتين وهذا اللقب كان جلاد هولاكو الساعي بدماء الفقهاء العلماء إلى السفاك السفاح، إنه يعرفهم واحداً واحداً لأنه منهم ويعرف مراتبهم ودرجاتهم، ويعرف بيوتهم ومجالسهم، فكان سهلاً عليه انتقائهم وسحبهم ليريق دماءهم، وابن تيمية يغمض عينيه عنه وعن أمثاله، ولا يرى فيما فعلوه ما يستحق المؤاخذة. لم يبصر ابن تيمية وفود الخيانة متزاحمة على باب هولاكو ملوكاً وسلاطين وصدوراً وأعياناً، بل أبصر نصير الدين الطوسي وحده، لأنه عندما كان يكتب لم يكن ينظر ببصره، بل ببصيرته، وبصيرته كانت مغشاة بعصبيته فانحجبت عنها الحقائق وتجلت الأباطيل. يزعم ابن تيمية أن نصير الدين الطوسي كان أهم رجالات الإسماعيلية الملاحدة وأنه وزيرهم، وإنه هو الذي أصدر الأمر بقتل الخليفة. يزعم ابن تيمية ذلك متجرئاً على نصوص التاريخ، غير مبال بمنافاة قوله لأبسط حقائق تلك النصوص، يفعل ذلك لأنه يريد بأية وسيلة أن ينال ممن يكرههم، يكرههم لا لشيء يستدعي الكره، بل لأنهم لا يرون رأيه في كل شيء، وكل من لا يرى رأيه فهو مكروه منه، بل هو حلال الدم، حلال الكرامة، حلال الاستباحة، الاستباحة بالسيف أو الاستباحة بالقلم. وبهذا الاستحلال استبيحت سمعة نصير الدين الطوسي، فأصبح عند ابن تيمية أهم الرجال والوزير الخطير، وينقله ابن تيمية من موقع أهم الرجال ومنصب الوزارة في ألموت إلى الآمر الناهي المسيطر في بغداد... إنه هو الذي أصدر الأمر بقتل الخليفة. هولاكو، قائد الجيوش الجرارة، الحاكم المطلق، قاهر الدول ومذل الملوك، يتخلى فجأة عن سلطانه ليجعلها في يد رجل غريب أُسر بالأمس فيما أسر من الرجال. هذا هو منطق ابن تيمية... إن الذي يأمر وينهى، والذي يصدر أوامر لقتل، وقتل من؟. قتل الخليفة - هو نصير الدين الطوسي لا هولاكو- ولم يشرح لنا ابن تيمية سبب زهد هولاكو بالسلطة بعد انتصاره الحاسم، ولا علة اعتكافه وتنازله عن الحكم لرجل غريب مثل الطوسي... |