علا قة الحاسوب بالإبداع الفني
( منذ اليوم مات فن الرسم ) هذا ما قاله الرسام الفرنسي المشهور ( دي لاكروا ) عندما بدأ التصوير الفوتوغرافي يشكل مصدر قلق للرسامين ضمن المنافسة مابين ا للوحة والصورة الفوتوغرافية التي استعارت الكثير من مفردات اللوحة ......
( هاهو الحاسوب يد س أ نفه في مجال الإ بداع الفني ) إذا أخذنا هذا القول مقارنة مع قول الفنان
( دي لاكروا ) فإن قلقاً ما سينتا ب الفنانين إلا أنه في المرة الأولى غاب القلق وأخذت كل من الصورة الفوتوغرافية واللوحة مسارها الخا ص بها وسيغيب القلق مرة أخرى عندما تسير اللوحة
التي يخرجها الحاسوب إلى جا نب اللوحة الكلاسيكية وسنرى أنه لكل منهما مساره وتقنياته .
وعندما بدأ تحولي إلى استخدام الحاسوب في إنتاج لوحا ت جديدة قدمتها في أول تجربة في سورية
في ( المركز الثقافي العربي – أبو رمانة – دمشق ) في العام 2004- لاحظت الفجوة مابين المتلقي الذي اعتاد الطرائق التقليدية في القراءة ا لبصرية للأعمال الكلاسيكية والقراءة الجديدة للأعمال الإبداعية المخرجة بوا سطة الحاسوب وعندما سئلت فيما إذا كا نت هذه الأعمال هي أشبه
بأطفال الأنابيب كانت الإجابة بنعم , ولكنهم أطفال من لحم ودم وسينمون بشكل طبيعي وسيقفون مع أقرانهم في المعارض والصالات .
فتح الحاسوب ساحة الإبداع على مصراعيها وصار من الممكن التجول بها بحرية غير محدودة
سواءً باستخدام الألوان الجاهزة الموضوعة في البرامج أو باستنباط ألوان جديدة ويكفي أن نقول
أن ( 16 ) مليون لون يمكن أن يقدمها الحاسوب لإنجاز العمل الفني وهو ما تعجز عن تقديمه
خلطات الألوا ن المعروفة . قد يكون العمل الإبداعي المخرج بالحاسوب تسكنه روح أكثر برودة لإن المتلقي اعتاد الطرائق ا لتقليدية في إخراج العمل الفني من حيث خامة اللون وبنية اللوحة .
إن رائحة بذر الكتان وقماشة الرسم المشدودة ولطخات الألوان وجرة الفرش هي الروح التي تسكن العمل التقليدي والتي هي أيضاً الحبل السري الذي يربط الفنان والمتلقي بالعمل الفني , ولكن الفن يبقى في المحصلة سلسلة من التطور وقد مر هذا التطور بمراحل زمنية مختلفة وكلما حدث تطور جديد كان هذا التطور عرضة للكثير من النقد إلى درجة الإتهام بتخريب الفن وقد يخلق هذا جوقة موحدة ضد الأعمال الإبداعية من قبل المحافظين على الأساليب التقليدية , إلا أنه لكل جيل تقويماته التي تختلف عن تقويمات الجيل السابق له والفن ليس له قواعد ملزمة أو حلقة صارمة تؤطر الإبداع بل هو انعكاس لعالم الفنان الداخلي أو انعكاس لتأثير العالم الخارجي ومن هنا قد يأتي العمل الفني ذاتياً بحتاً أو عموميأً في موضوعه .
والفن بالمعا يير المتطورة لم يعد شيئاً جمالياً بحتاً وإنما صار نشاطاً ذهنياً وفكرياً يعتمد التحليل والتركيب , وقدم مفاهيم معيارية للجمال , وابتعد عن طغيان السكونية واعتبر العمل الفني عملية معرفية تعتمد مشاركة من المتلقي , وبل اعتبرته شريكاُ في العمل أي فعالاً لا منفعلا , وله اسلوبه ومفهومه في تكوين استراتيجية نقدية تعتمد على قراء ته للعمل الفني ليس من الناحية البصرية والجمالية فقط , وإنما من الناحية الفكرية أيضاً .
يقول الفنان الأسباني ( أورتيغا غاسيت ) إن ا لفن الحديث أ صبح حا لياً ذو صفة غير شعبية لإنه أصبح غامضأً لا يفهمه عامة الناس وقد فقد أهم عناصره الإنسانية , وفقد صلته بعالمه الخارجي.
إلا أنه يمكن القول أن الفن قد شهد تحولاً وغادر الفوتوغرافية المقروءة بالرؤية البسيطة للوحة من
أي كان , وتحول من المشاهدة البصرية الجمالية البحتة إلى حقيقة ذهنية تحمل قيماً جديدة اختلافية
ذات مفهوم عقلي وابتعد عن الفلسفة الكلية لإن الإنسان أصبح مهموماً بالمكونات الجديدة للعمل الفني. ولم تعد اللوحة تعتمد جماليات نمطية تستوقف المشاهد لثوان يكون قد تملى منها ثم انصرف
بل أصبحت المشاهدة تتطلب منه حواراً شخصياً مع الآخر أو مع نفسه من خلال العمل الفني.
إن التسهيلات التي يقدمها الحاسوب للمبدع من خلال البرامج لا تكفي لإن تقدم عملاً إبداعياً بل يجب أن يكون خلف العمل فناناً تمرس بالرسم الكلاسيكي أياً كانت مدارسه وا لتسهيلات التي ذكرناها والبرمجيات المساعدة سمحت للدخلاء والمتسللين إلى ساحة الإبداع أن يقدموا أعمالاً دخيلة على الإبداع ,تحت تسميا ت مختلفة تكون في مجملها أعمالاً لغزية وتحمل مزاعم تجريدية أو خروجا عن المدرسية تحت اسم الحداثة وما بعد الحداثة . إن نقدا يوازي التطور الجديد في ساحة الفن يمنع الدخلاء من المخاتلة , وعدم الخياطة إلا بمسلة الفن والإبداع .
يختصر الحاسوب وقت الفنان في المراجعات ا لتي يجريها على اللوحة سواءُ حذ ف الأ لوا ن أو التغيير في التشكيل والمنظور وهذا لا يكلفه سوى جهد ذهني وحركة من أداة موجودة في البرنامج الذي يبدع من خلاله . كما أن مساحة اللوحة هي ميدان للتجريب يضع فيه تشكيلاته حسبما يقرره
سواءً من حيث اللون أ و المنظور أو ا لضوء , وقد يستعين الفنان بأحد المرشحات التي تشكل
مقاربة مع أسلوب فنا ن له تأثيرات يقرأ من خلالها ( كفان كوخ ) أو ( مانيه ) أو ( ما تيس )
وقد يستعين بصور فوتوغرافية أو مقا طع من أعمال أخرى تشكل حاملاً لفكرة العمل . وقد يلجأإلى توليفا ت ومونتاج يخدم فكرته . وما ذكرته لا يعتبر استسهالاً للعمل الإبداعي إذ أن فكرة العمل
تستدعي خبرا ت مكونة خلال رحلة طويلة راكمت تجارب كثيرة تبلور العمل الإبداعي وتخرجه
إلى عالم المشاهدة .
إن ثقافة بصرية جديدة يجب ا استدعاؤها لتماشي المعطيات الجديدة للحاسوب وإلا فإن القطيعة ستكون مابين الفنان وأدواته وما بين المتلقي بل والناقد أيضاً . ولعل المستفيد الأول من معطيات الحاسوب هم دارسو الفنون ا لبصرية في كليا ت الفنون الجميلة . وبمجرد أ ن نتذكر ماكان بين أيدينا من وسائل لتصميم الإعلان لرأ ينا كم هي بدا ئية مقارنة بما يقدمه الحاسوب .
كانت قماشة الرسم أو الرقائق الخشبية أو المسطحات الأخرى بعد وضع الأسا س على سطوحها
هي المسرح الذي يستقبل أفكار الفنان وتقنياته في العمل . أما المتاح بالنسبة للفنان بالنسبة لخامة
العمل المخرج بالحاسوب فتقتصر على تشكيلة من الورق يأخذ سطحه ملمس القماش أو خشونة
محبحبة أو يكون مصقولاً ويختار المبدع ما يراه منا سباً لاستقبال طباعة عمله , فقد تتم طباعة العمل بواسطة الطابعات النافثة للحبر التي تعتمد تقنية خاصة يطلق عليها (Stochastic Dithering ) وذلك لإنشاء انتقال انسيابي بين التدرجات المتقاربة بين الألوان وتلاحظ العين البشرية الألوان الناتجة عن هذه التقنية بسلاسة أكثر وتختلف مساحة العمل المخرج حسب نوع الطابعة . أما إذا كانت ا لطباعة ستتم بواسطة المخابر المعدة لطباعة ا لصور الفوتوغرافية والتي
تستخدم الطباعة الرقمية على ورق مطلي بهاليد الفضة ( Silver Halide Crystals ) فإن
مدافع ليزرية تطلق حزم ضوئية يتحسس الورق لهذه الكثافة والتي هي با لأصل ألوا ن العمل
المراد طباعته وهذه التقنية تتفوق على الطابعات الأخرى أما الطباعات التجارية في المطا بع
العادية فهي مكلفة بالنسبة لطباعة عمل واحد .
نزار شاهين – فنان تشكيلي – مصور ضوئي
المقال نشر في مجلة الفيصل العدد 391-392 - 2009
+++++++++