بـور وأينشتاين.. وبداية خلاف طويل ..
لقد كانت فكرة هايزنبرغ هي أنه يستحيل قياس موقع الالكترون وسرعته بدقة تامة وفي نفس الوقت. إنها فكرة تحمل الكثير من الغرائب، وستكون بذرة خلاف علمي وفلسفي عميق.
وفقاً لهذه النظرة فإن مفهوم "موقع" الالكترون ما هو في الحقيقة سوى نتيجة لتجربة تهدف إلى قياس "موقع" الالكترون في لحظة معينة، أما الموقع بحد ذاته فليس له معنى، فبما أنه لا يمكن من حيث المبدأ تحديد "موقع" الالكترون فلا وجود لشيء اسمه "موقع" الالكترون! كما أنه حتى نحدد مسار الالكترون في الذرة أو خارجها لا بد لنا من تحديد سرعته وموقعه في لحظة معينة، ولكن تحديد كل من هذين المتحولين هو أمر مستحيل كما رأينا، مما يعني أنه لا يمكن تحديد مسار الالكترون من حيث المبدأ، أي أن مسار الالكترون أيضاً لا معنى له! ليس ذلك فحسب بل لا معنى لوجود الالكترون إلا حين نحاول قياس سرعته أو موقعه.
حاول هايزنبرغ إقناع بور بتفسيره لمبدأ الارتياب أو اللاتعيين وبأن منشأ الارتياب هو في صـلب محاولة قياس الالكترون بالتجربة. لم يقبل بور بهذا التفسير ورأى أن أصل اللاتعيين في أساسه ليس في التجربة بل في ازدواجيـة طبيعة الالكترون (جسيم وموجة). هل الالكترون موجة أم جسيم؟ رأى بور أنه لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال، بل إن الالكترون يتصرف كموجة حين نجري عليه تجارب مخصصة لقياس خاصية موجية، وكجسيم حين نجري عليه تجارب مخصصة لقياس خاصية جسيمية. أي أننا نصمم التجربة لقياس أمر معين أو خاصية معينة، هذه الخاصية إما تنطبق على الموجات (كتداخل الموجات مثلاً أو التواتر) أو تنطبق على الجسيم (كالكتلة أو الموقع). وفقاً للتجربة التي صممناها لدراسة الالكترون سيظهر الالكترون لنا كموجة أو كجسيم. ونتيجة اختيارنا لأحد هاتين التجربتين فإن الثمن الذي ندفعه هو اللاتعيين.
بمعنى آخر، فإن للالكترون طبيعة جسيمية وطبيعة موجية، وحين نصمم تجربة لقياس خاصية معينة من خصائص الالكترون فهذه الخاصية إما ستكون موجية أو جسيمية (وليس الاثنتين معاً)، مما يعني أننا سنكشف عن طبيعة واحدة للالكترون في تجربة واحدة، فإذا كانت التجربة مصممة لقياس خاصية موجية فإن الطبيعة الجسيمية للالكترون ستختفي، مما يؤدي إلى ارتياب أو عدم دقة في قياس الخاصية التي صممنا التجربة من أجلها لأن التجربة لن تكشف لنا سوى جانب واحد من طبيعة الالكترون.
لقد وجد بور بذلك حلاً وسطاً بين الطبيعة الموجية والطبيعة الجسيمية للالكترون، ولكن هايزنبرغ لم يكن راغباً في حل وسط ولذلك عارض تفسير بور. ولكنه أدرك فيما بعد خطأه وندم على تسرعه وغضبه على بور خلال نقاش هذه الفكرة.
وفقاً لتفسير بور – والذي عرف فيما بعد بمدرسة كوبنهاغن – فإن ثابت بلانك ما هو إلا مقياس عام لمقدار اللاتعيين في قوانين الطبيعة نتيجة للطبيعة المزدوجة للمادة والإشعاع. كما أن هاتين الطبيعتين متكاملتان إلا أنهما منفصلتان بحيث لا يمكننا إلا قياس واحدة منهما في تجربة واحدة وفقاً لتصميم التجربة، فلا يمكن الكشف عن الطبيعتين معاً في تجربة واحدة.
لم ترق هذه الفكرة لأينشتاين، فما أراده أينشتاين هو طريقة لمزج هاتين الطبيعتين بدلاً من فصلهما. لم يعارض أينشتاين تفسير بور من حيث المبدأ، فقد قبل بمبدأ اللاتعيين، ولكنه لم يقتنع بأن هذه هي النهاية وأن هذا هو التفسير النهائي لعالم الكوانتم.
هل تفسير بور هو حقاً التفسير النهائي لعالم الكوانتم؟ أم أنه تفسير ناقص؟