وهنا رأي شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى فيه
سئل شيخ الإسلام قدس الله روحه:
ما تقول أئمة الإسلام في الحلاج؟ وفيمن قال: أنا أعتقد ما يعتقده
الحلاج: ماذا يجب عليه؟ ويقول: إنه قتل ظلمًا كما قتل بعض الأنبياء،
ويقول: الحلاج من أولياء الله. فماذا يجب عليه بهذا الكلام، وهل قتل بسيف
الشريعة؟
فأجاب:
الحمد لله، من اعتقد ما يعتقده الحلاج من المقالات التي قتل الحلاج
عليها فهو كافر مرتد باتفاق المسلمين، فإن المسلمين إنما قتلوه على الحلول
والاتحاد، ونحو ذلك من مقالات أهل الزندقة والإلحاد، كقوله: أنا الله،
وقوله: إله في السماء وإله في الأرض.
وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا إله إلا الله، وأن الله خالق
كل شيء، وكل ما سواه مخلوق و{إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}
[1]، وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الْحَقِّ}
[2] الآيات، وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ الله هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} الآيتين
[3].
فالنصارى الذين كفرهم الله ورسوله، واتفق المسلمون على كفرهم بالله
ورسوله، كان من أعظم دعواهم الحلول والاتحاد بالمسيح ابن مريم، فمن قال
بالحلول والاتحاد في غير المسيح كما تقوله الغالية في على، وكما تقوله
الحلاجية في الحلاج، والحاكمية في الحاكم، وأمثال هؤلاء فقولهم شر من قول
النصارى؛ لأن المسيح ابن مريم أفضل من هؤلاء كلهم. وهؤلاء من جنس أتباع
الدجال، الذي يدعى الإلهية ليتبع، مع أن الدجال يقول للسماء: أمطري فتمطر،
وللأرض: أنبتي فتنبت، وللخربة: أخرجي كنوزك، فتخرج معه كنوز الذهب والفضة،
ويقتل رجلا مؤمنا ثم يأمر به فيقوم، ومع هذا فهو الأعور الكذاب الدجال،
فمن ادعى الإلهية بدون هذه الخوارق، كان دون هذا الدجال. والحلاج كانت له
مخاريق وأنواع من السحر، وله كتب منسوبة إليه في السحر. وبالجملة، فلا
خلاف بين الأمة أن من قال بحلول الله في البشر، واتحاده به، وأن البشر
يكون إلها، وهذا من الآلهة، فهو كافر مباح الدم، وعلى هذا قتل الحلاج.
ومن قال: إن الله نطق على لسان الحلاج، وإن الكلام المسموع من الحلاج
كان كلام الله، وكان الله هو القائل على لسانه: أنا الله، فهو كافر باتفاق
المسلمين، فإن الله لا يَحِل في البشر، ولا تكلم على لسان بشر، ولكن يرسل
الرسل بكلامه، فيقولون عليه ما أمرهم ببلاغه، فيقول على ألسنة الرسل ما
أمرهم بقوله، كما قال النبي
: (أما إن الله قال على لسان نبيه: سمع الله لمن حمده).
فإن كل واحد من المرسل والرسول قد يقال: إنه يقول على لسان الآخر كما
قال الإمام أحمد بن حنبل للمروذي: قل على لساني ما شئت، وكما يقال: هذا
يقول على لسان السلطان كيت وكيت، فمثل هذا معناه مفهوم.
وأما أن الله هو المتكلم على لسان البشر كما يتكلم الجني على لسان
المصروع، فهذا كفر صريح، وأما إذا ظهر مثل هذا القول عن غائب العقل قد رفع
عنه القلم، لكونه مصطلما في حال من أحوال الفنا والسكر، فهذا تكلم به في
حال رفع عنه فيهما القلم، فالقول وإن كان باطلا لكن القائل غير مؤاخذ.
ومثل هذا يعرض لمن استولى عليه سلطان الحب مع ضعف العقل، كما يقال: إن
محبوبًا ألقى نفسه في اليم فألقى المحب نفسه خلفه، فقال: أنا وقعت فلم
وقعت خلفي؟ قال: غبت بك عني فظننت أنك أني.
وقد ينتهي بعض الناس إلى مقام يغيب فيه بمعبوده عن عبادته، وبمذكوره عن ذكره وبمعروفه عن معرفته.
فإذا ذهب تمييز هذا وصار غائب العقل بحيث يرفع عنه القلم لم يكن معاقبا
على ما تكلم به في هذه الحال، مع العلم بأنه خطأ وضلال، وأنه حال ناقص لا
يكون لأولياء الله.
وما يحكى عن الحلاج من ظهور كرامات له عند قتله، مثل كتابة دمه على
الأرض: الله، الله، وإظهار الفرح بالقتل أو نحو ذلك، فكله كذب. فقد جمع
المسلمون أخبار الحلاج في مواضع كثيرة، كما ذكر ثابت بن سنان في أخبار
الخلفاء وقد شهد مقتله وكما ذكر إسماعيل بن علي الخطبي في تاريخ بغداد وقد
شهد قتله وكما ذكر الحافظ أبو بكر الخطيب في تاريخه، وكما ذكر القاضي أبو
يعلى في المعتمد، وكما ذكر القاضي أبوبكر بن الطيب، وأبو محمد بن حزم وغيرهم، وكما ذكر أبو يوسف القزويني وأبوالفرج بن الجوزي، فيما جمعا من أخباره.
وقد ذكر الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي في طبقات الصوفية، أن أكثر
المشايخ أخرجوه عن الطريق، ولم يذكره أبو القاسم القشيري في رسالته من
المشايخ الذين عدهم من مشايخ الطريق. وما نعلم أحدًا من أئمة المسلمين ذكر
الحلاج بخير، لا من العلماء ولا من المشايخ، ولكن بعض الناس يقف فيه؛ لأنه
لم يعرف أمره، وأبلغ من يحسن به الظن يقول: إنه وجب قتله في الظاهر،
فالقاتل مجاهد والمقتول شهيد، وهذا أيضا خطأ.
وقول القائل: إنه قتل ظلمًا، قول باطل، فإن وجوب قتله على ما أظهره من
الإلحاد أمر واجب باتفاق المسلمين، لكن لما كان يظهر الإسلام ويبطن
الإلحاد إلى أصحابه، صار زنديقًا، فلما أخذ وحبس أظهر التوبة، والفقهاء
متنازعون في قبول توبة الزنديق، فأكثرهم لا يقبلها، وهو مذهب مالك وأهل
المدينة، ومذهب أحمد في أشهر الروايتين عنه، وهو أحد القولين في مذهب أبي
حنيفة، ووجه في مذهب الشافعي، والقول الآخر تقبل توبته.
وقد اتفقوا على أنه إذا قتل مثل هذا لا يقال: قتل ظلمًا.
==========================================